الرئيسة الشرفية لجمعية القضاة التونسيين تكتب: نحن وهيئة الانتخابات.. أين كنا وكيف أصبحنا؟
أين كنا ؟ كان التونسيون قبل الثورة يحلمون بوجود هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات، إذ كانت وزارة الداخلية منذ الاستقلال هي التي تشرف على "العملية الانتخابية" وترتّب نتائجها بحسب الأوامر الصادرة إليها من رئاسة الجمهورية نفسها، ومن الحزب الحاكم، واستبعدت من المشاركة فيها كل الأحزاب بعد أن ألغى بورقيبة وجودها عدا الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم.
وهكذا، سيطر حزب الدولة ودولة الحزب على منصب الرئاسة وعلى "مجلس الأمّة"، بل كان النظام يمنع أية شخصية مستقلة من الترشح مثلما وقع ذلك في 1974 مع الشاذلي زويتن الذي لم يكن رجل سياسة. ترشح زويتن للانتخابات الرئاسية فنعته بورقيبة بالجنون . و كان الرئيس وقتها استكمل ولاياته الرئاسية الثلاث، وفقا لنص الدستور الذي لم يحترمه وطوعه للبقاء في الحكم وجعل من نفسه بعد سنة من ذلك رئيسا مدى الحياة.
أما بن علي فكان يلجأ كل مرة إلى استبعاد المترشحين الأكثر مشاكسة (سواء أكانوا مستقلين أم منتمين إلى أحزاب معارضة ديمقراطية وقع الإقرار بوجودها القانوني في عهده)، كان يتم حصر المترشحين بعد دراسة دقيقة لجميع الاحتمالات الخاصة بكل انتخابات، فتقيد المشاركة بطريقة تلغي احتمال حصول أي مفاجأة قد تصبح خارج السيطرة.
كان بن علي يسُلّط على معارضيه في كل انتخابات رئاسية بشكل خاص قانونا انتخابيا تلجا السلطة إلى تغييره باستمرار وفقًا لأغراضها السياسية من أجل إعطاء غطاء قانوني لاستبعادهم من الترشح لمنصب الرئاسة، وكانت الانتخابات مجرد عملية دورية شكلية تجري كل 5 سنوات في نطاق الغياب التام لحياد الإدارة.
في الخلاصة كانت الانتخابات عملية تزوير عملاقة للإرادة الشعبية. فالمجلس الدستوري الذي أحدث في 16 ديسمبر 1987 وكلف عبد العزيز بن ضياء برئاسته عهدت إليه صلاحية البت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين بعد ذلك ومراقبة صحة عمليات الاستفتاء والإعلان عن نتائجه وفق الأمر المحدث له بعد تنقيحه عدة مرات. وكان جميع أعضائه يعيّنهم رئيس الجمهورية. وكذا جميع أعضاء المرصد الوطني للانتخابات الذي أُحدث في عام 2004، عيّنهم بن علي هم أيضا من الموالين له من المحامين وأساتذة القانون والإعلاميين.
كان دور هذين الهيكلين الصوريين التصديق الشكلي على الرغم من عمليات التلاعب والتزييف على نطاق واسع على نتائج الانتخابات التشريعية أو الرئاسية التي جرت، وخاصة تلك التي ترشح فيها بن علي سنة 2004 لعهدة رئاسية رابعة بعد إلغاء سقف العهدات الثلاث على إثر تنقيح الدستور ، ففتح بن علي بذلك الباب مرة أخرى للرئاسة مدى الحياة، التي وعد بإلغائها في بيانه في السابع من نوفمبر.. هكذا كنا !. فكيف أصبحنا؟
تحقق الحلم بفضل ثورة الحرية والكرامة فتأسست منذ 2011 الهيئة العليا المستقلة للانتخابات كأساس لا محيد عنه لبناء المجتمع الديمقراطي المنشود. عاشت هذه المؤسسة الوليدة تجربتها الصعبة الأولى مع الهيئة التي ترأسها السيد كمال الجندوبي والتي نظمت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 اكتوبر 2011 الذي أثمر الدستور و البناء الدستوري الديمقراطي الذي خول لرئيس الجمهورية قيس سعيد في 2019 التمتع بمكتسبات الديمقراطية والتعددية والترشح للانتخابات الرئاسية بعد أن أقر مبدأ انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب.
استمر هذا المكاينزم الجوهري في الاشتغال مع الهيئة الحالية التي ركزت بعد انتخابات 2014 ضمن مسار تشاركي علني وشفاف. وقد كان الأستاذ شفيق صرصار أول من ترأسها ثم جاء بعده الأستاذان المنصري وبفون. إلى حين إعلان الرئيس قيس سعيد أخيرا عن حلها الفعلي عبر التدخل في قانونها وتقويض استقلاليتها نهائيا بواسطة آلية تعيين وإعفاء كل أعضائها فصارت ترجع في كل تفاصيلها إلى قراراته وحده بلا معقب عليها أو طاعن فيها.
من الغريب أن الذي أجهز على الهيئة هو الرئيس المنتخب ديمقراطيا، وهو ثمرة من ثمراتها، إذ لم يبق المرسوم الأخير من الهيئة على غير الاسم مع الإيهام باستمرارها باختيار 3 من أعضائها السابقين سوف يعينهم رئيس الجمهورية، وبطبيعة الحال كانت الذريعة (لابد من وجود ذريعة) أن الهيئة لم تكن مستقلة، وأن الانتخابات التي أشرفت عليها كانت فاقدة للشفافية وغير نزيهة، بل يعتقد البعض أنها كانت مزوّرة. فليكن !. ولكن هذا الحكم لا يمكن أن يصح على بعض الانتخابات دون البعض الآخر. على التشريعية دون الرئاسية وعلى المركزية دون الجهوية (الانتخابات البلدية) وعلى الوطنية دون القطاعية (أشرفت الهيئة على انتخابات المجلس الأعلى للقضاء كذلك).
يمكن لأي كان أن يصدر على الهيئة الحكم الذي يريد، ولكن فليكن له من النزاهة ما يجعله يسحب حكمه على انتخاب الرئيس أيضا. غير أن هذا الحكم الذي يتسلح به البعض اليوم للطعن في الهيئة وأعضائها هو أشبه بما كان يسميه المرحوم محمد حسنين هيكل بـ "الحكمة بمفعول رجعي". إذ لم تشكك أي جهة داخلية ولا خارجية في صحة كل الانتخابات التي نظمتها الهيئة وفي استقلاليتها "الإبان".
عدم اتخاذ المواقف في وقتها و التشكيك في أعمال الهيئة وفي استقلاليتها بشكل متأخر وإطلاق الأحكام بعد تغير موازين القوى والتفكير بشكل ما بعدي Raisonner à posteriori كل ذلك مجرد تبرير لسلوك سياسي لا صلة له بأداء الهيئة للقضاء عليها وجعلها جهازا تابعا للسلطة في غياب تام للشفافية ولأدنى قدر من التشاركية ودون إيلاء أي اعتبار لحق المواطنين التونسيين في إبداء أرائهم حول هذه المسالة المفصلية والمصيرية عبر كل الوسائط ومنها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمنابر التي توفرها. ليذكر لنا أعداء الهيئة اليوم جهة واحدة داخلية كانت أو خارجية لها مصداقية طعنت في الانتخابات التي أشرفت عليها منذ تأسيسها وشككت فيها في "الإبان". أو حتى لاحقا.
هيئة جدير بالثقة داخليا وخارجيا
لقد قبلت نتائج الانتخابات من الجميع. بل إن مصداقية الهيئة تجاوزت الانتخابات الوطنية والجهوية. فقد التجأ إليها القضاة حماة القانون والمحامون والجامعيون وعدول التنفيذ كما أشرنا سابقا كجهة موثوق بها في تنظيم انتخابات المجلس الأعلى للقضاء والاشراف على نزاهتها، ولم يشكك في نتائجها أي طرف من الأطراف المعنية بها ولا غيرهم هذه الثقة تجاوزت تونس إذ أصبحت بلادنا بفضل تجربة الهيئة نموذجا يحتذى في المجال الانتخابي تدلل على ذلك كل الشهادات الدولية التي أبرزت أصالة التجربة التونسية.
لا.. لم نكن أبدا من جماعة "جنة وفيها بريكاجي"
وحتى لا نكون من أصحاب مقولة "جنة وفيها بريكاجي" فمن الحق أن نعترف أن مسار هيئة الانتخابات والانتخابات بشكل عام مثل كل مسارات المؤسسات والهيئات المستقلة الوليدة في التجارب الديمقراطية الناشئة كانت تشوبها بلا شك نقائص وإخلالات تستدعي الإصلاح. وقد كنا داخل جمعية القضاة التونسيين من أوائل من نبهوا في وقته وبعيدا عن منطق "الحكمة بمفعول رجعي" لنقائص القانون الانتخابي بشكل عام وفيما يتعلق بالرقابة القضائية الفعالة وطبق المعايير الدولية على تمويل الحملات الانتخابية خصوصا.
وطالبنا بالإصلاحات من خلال مقترحات مكتوبة وموثقة ستظل شهادات على انخراطنا في عملية الإصلاح الجدية. كان ذلك إيمانا منا بأهمية دور المجتمع المدني كسلطة مضادة لأي انحراف بالسلطة مهما كان لونها وتوجهاتها ودفاعا على الديمقراطية الناشئة التي نعلم انه لا يمكن أن تكون مثالية في سنوات معدودات ودون أن يكتمل البناء المؤسسي الديمقراطي إذ ظلت المؤسسات والهيئات الدستورية ترواح مكانها ومنها المحكمة الدستورية أولا.
إن الإصلاح لا يكون بإلغاء مكتسبات جاءت بها الثورة والمسار الديمقراطي التشاركي بمنطق "فسخ وعاود" (فما يهدم لا شيء يضمن إعادة بنائه) بل بالعمل المضني والمستمر على ما هو موجود استثمارا للإيجابيات فيه دون التخلي خاصة على جوهر العملية الديمقراطية ودولة القانون المتعارف عليها دوليا، بدءا بالتفريق بين السلط وبمبدأ شرعية مؤسسات الدولة القائمة على مبدأ الاقتراع الحر النزيه والشفاف تحميه جهة مستقلة لا ترجع في تعيين أعضائها أو في عزلهم وفي صلاحياتها إلى فرد واحد قد يكون غدا مترشحا للانتخابات بمعزل عن أي روح تشاركية أو نقاش عام علني واندماجي.
هل نعود اليوم إلى ما كنا فيه قبل الثورة كما وصفنا بعضا منه أعلاه ونكرر تجربته المريرة التي قادت إلى الثورة عليه؟ أخشى أن يحدث ذلك فنضطر أن نقول قريبا إننا نسير "عودا على بدء" وأننا نكرر أنفسنا في صور قد لا تقل قتامة عن الماضي القريب.
* قاضية والرئيسة الشرفية لجمعية القضاة التونسيين